كيف تصنع بيئة العمل الحديثة موظفًا أخطبوطًا منخفض الكفاءة؟

 مصدر صورة المقالة: artpal

الساعة الخامسة وعشر دقائق عصرًا. أنت الآن تحاول أن تأخذ نفس عميق، تشعر أن جسدك منهك وكأنك كنت تركض لساعات، بالرغم من أنك جالس معظم اليوم على مكتبك. تقول في نفسك، «يا الله كان يوم طويل!»، ثم تستوعب أنك لم تنجز أيًا من المهام الضرورية التي كان يفترض أن تنهيها. لذلك تقرر أن تقضي ساعات إضافية لاتمام ذلك المستند المنحوس الذي لم تستطع العمل عليه حتى الآن بسبب ماراثون الاجتماعات عديمة الفائدة، وسيل الإيميلات الجارف، وإعصار الرسائل النصية الذي يهجم عليك كلما هممت بالعمل على المستند.

قصة حياتك ؟ نعم، أشعر بك.

ينتشر هذا السيناريو عند الكثير من الموظفين، وأنا أشمل هنا الجميع: أرباب العمل، أصحاب العمل المستقل/الحر وكل من يقوم بتأدية عمل “معرفي” مقابل أجر. ويشير مصطلح العمل المعرفي أو موظفي المعرفة (Knowledge workers) إلى طبيعة العمل المطلوبة في اقتصاد عصرنا الحالي، والتي تقوم بشكل رئيسي على مهارات ذهنية لا مهارات جسدية كما في السابق. وهذا النوع من المهارات يعتمد بشكل أساسي على قدرتنا على التركيز لفترات طويلة، فدون هذا التركيز، لن نستطيع تقوية مهاراتنا الذهنية، وبالتالي قدرتنا على الابداع أو حل المشكلات المعقدة تضعف.

عند الحديث عن التركيز والمشتتات في سياق العمل، دائمًا ما يلقى اللوم على الموظف، فيأتي المدير ويشرح لك أن لديك مشكلة عدم قدرة على “إدارة وقتك” بكفاءة، وإن كنت مستقل، أو أنك مدير نفسك، قد تلوم نفسك على ذلك أيضًا. وقد تكون هذه فعلاً مشكلة لدى الفرد، إلا أن هذا الاعتقاد يتغاضى تمامًا عن حقيقة أن بيئات العمل الحديثة مصممة بطريقة تمنهج التشتت عند الموظفين، وبالتالي تخفض من كفاءة إنتاجيتهم وقدرتهم على إنجاز عمل حقيقي ذي قيمة عالية.

والمقصود بـ “عمل حقيقي” هنا هو العمل الذي تعينت في منصب ما من أجله، مثلاً إذا كنت مبرمج، فالعمل الحقيقي في يومك هو الوقت التي تقضيه في البرمجة وحل مشكلات البرمجيات بغرض تطوير الخدمات/المنتجات، أما الاجتماعات، وتفقد الايميلات، والمناقشات الجانبية المطولة مع الزملاء فهذه مهام ثانوية – المفترض أنها داعمة – لكنها ليست أساسية، لكن في الغالب أصبحت هذه المهام الثانوية مشتته ومستنزفة لوقتك وجهدك بحيث لا تتسنى لك الفرصة أن تقوم بالعمل الحقيقي.

في كتابه «العمل العميق» (Deep Work) يشرح الكاتب والبروفيسور في علوم الحاسب «كال نيوبورت» أن الشركات بشكل عام لا تدرك حجم الخسائر، سواء مادية أو غير مادية، إثر ممارسات العمل الحديثة التي تصنع بيئة تفقد الموظفين تركيزهم وقدرتهم على الانخراط في «عمل عميق» والذي يُعرّفه على أنه: «النشاط/العمل الاحترافي الذي يتم في حالة من التركيز الشديد، مما يدفع قدراتك الذهنية إلى أقصى حدودها، فتخلق هذه الجهود قيمة جديدة، وتحسن مهاراتك بشكل يصعب محاكاته [من منافسيك]». وعكس ذلك «العمل السطحي»، الذي لا يستدعي جهد ذهني كبير، مثل تفقد الإيميلات، حضور اجتماعات مستجدات العمل ..إلخ.

وبحسب قول «نيوبورت»، لو كانت الشركات تدرك حجم الخسائر إثر تضحيتهم بالـ«العمل العميق» لراجعوا وغيروا منظومة عملهم في الحال. فمثلاً في ٢٠١٢ تنبه «توم كوكران»، رئيس مكتب المعلومات بشركة أتلانتك ميديا، إلى الوقت الطويل الذي يقضيه على الإيميلات يوميًا، فأراد أن يرى الأثر المادي لهذه الممارسة، وبحسبة معينة وجد أنه في كل مرة يقرأ أو يرد فيها موظف من شركتهم على إيميل في يوم عمله فإن هذا يكلف الشركة ٩٥ سنت، يبدو الأمر بسيطًا، صحيح؟ لكن ماذا إن قلت لك أنه وجد أن الشركة تنفق أكثر من مليون دولار سنويًا على قراءة والرد على الإيميلات فقط! [١]

الأخطبوط السريع البطيء

تمامًا مثل الأخطبوط ذي الأيادي المتعددة والذي يستطيع فعل أشياء متعددة في الوقت ذاته، كذلك الموظف في بيئة العمل الحديثة. فتجده مثلاً يحضر اجتماع عن بعد، لكنه في نفس الوقت يعمل على عرض تقني عليه أن يسلمه قبل الساعة ١٢ الظهر، وفي الوقت ذاته يقرأ إيميل تلقاه من عميل، ويجيب على استفسارات زميله عن ميزانية المشروع الفلاني عبر الواتس آب، بينما يرد على سؤال مديرته التي تتابع على سلاك (Slack) مستجدات العرض التقني!

وبالرغم من أن الموظف يفعل مهام متعددة في وقت واحد، وقد يبدو أنه سريع، إلا أنه كالأخطبوط تمامًا في بطء الحركة، ويكمن البطء هنا في حقيقة أن تقدم الموظف في إنجاز عمل حقيقي وعميق بطيء جدًا. ناهيك عن أنه كلما زاد التشتت، زاد التوتر والإجهاد عند الموظف، وبالتالي تنخفض كفاءة عمله.

لكن ما هي ممارسات بيئة العمل الحديثة التي تخلق هذا التشتت عند الموظفين؟ أعتقد أن هناك ٥ أمور رئيسة:

١) خرافة تعدد المهام أو الـ Multitasking

جرت العادة أننا نتباها بقدرتنا على Multitasking ونعتقد أنها نقطة قوة و “شطارة” لكن العديد من الأبحاث تقول أنها عادة تقود لأداء منخفض الكفاءة. في دراسة أجرتها «صوفي ليوري»، أستاذة أعمال بجامعة مينسوتا، قدمت مفهوم دعته «بقايا الانتباه» (Attention Residue)، وهو ما توصلت إليه بعد البحث في أثر تعدد المهام على أداء الفرد، فوجدت أن الشخص عندما ينتقل من مهمة «أ» إلى مهمة «ب»، فإن انتباهه لا يتحول على الفور من «أ» إلى «ب»، بل توجد بقايا من مهمة «أ» عالقة في ذهن الشخص بالرغم من أنه بدأ في مهمة أخرى جديدة، ويزداد الأمر سوءً عندما تنهي مهمة «أ» بشكل ضبابي، أو أنها لم تكن تستدعي جهدًا ذهنيًا مكثفًا [٢].

لنأخذ مثالاً توضيحيًا، لنقل أن مهمة «أ» هي أن تحضر اجتماع مع عميل جديد، ومهمة «ب» هي أنك تكتب التقرير السنوي عن انجازات القسم. بمجرد ما أن ينتهي الاجتماع، تتوجه إلى جهازك وتفتح مستندًا جديدًا للعمل على التقرير، ما يحدث هنا هو أن عقلك لا يزال يحمل بقايا انتباه من اجتماعك مع العميل، وهذا يؤثر على مدى صفاء ذهنك للتركيز على كتابة التقرير، ويكون الوضع أسوأ إن انتهى الاجتماع مع العميل دون أن تكون هناك اتفاقيات وخطوات عمل واضحة للمرحلة التالية (أي انتهت المهمة بشكل ضبابي)، أو إن لم تكن مشاركًا فعالاً في الاجتماع – مجرد مستمع (أي مهمة لم تستدعي جهدًا ذهنيًا مكثفًا) [٣].

الأمر ذاته في التعامل مع الإيميلات، قد لا يبدو إلقاء النظر على صندوق البريد الالكتروني كل ١٠ دقائق أمرًا مضرًا، لكن هذه الحركة البسيطة تقدم هدفًا جديدًا لانتباهك وبالتالي تشتته عن المهمة الأصلية التي كان مركزًا عليها، والأمر يزداد سوءً عندما تقرأ إيميلات لا تستطيع التعامل معها في اللحظة، فبذلك تكون قد شتت انتباهك “على الفاضي” وخلقت بقايا انتباه ستأخذها معك للمهمة التالية مما سيجعلك أدائك في المهمة التالية أضعف. لذلك الأشخاص كثيروا التنقل من مهمة لأخرى، يعانون من ظاهرة بقايا الانتباه، وكلما زادت بقايا الانتباه، تأثر الأداء سلبًا [٤].

تركيز الانتباه ومادة المايلين:

تشير أبحاث علم الأعصاب المعنية بدراسة العمليات الفيزيائية الدماغية المرتبطة بأداء الأفراد إلى أهمية مادة المايلين (Myelin)، وهي طبقة من الغشاء الدهني التي تنمو حول الأعصاب وتعمل كعازل يسمح للخلايا بالتحرك بسرعة وتنظيم أكبر. ونظرًا لدور المايلين المهم في تحسين الأداء سواء الذهني أو الجسدي، تقول النظرية أن الشخص يتحسن في مهارة ما عندما ينمي مايلين أكثر حول الأعصاب المتعلقة بتلك المهارة، مما يؤدي إلى أن تتحرك شبكة الأعصاب ذات الصلة بكفاءة وفاعلية [٥].

كلما ركزنا على أداء مهمة واحدة في الوقت الواحد دون تشتت، كلما حفزنا دماغنا على إفراز وتنمية طبقة المايلين. وفي المقابل كلما قمنا بمهام متعددة في الوقت ذاته، مثلاً قراءة مستند + التحدث مع زميل + تفقد تويتر + تناول ساندوتش، فنحن هنا نقوم بتحريك شبكات عصبية متعددة في الوقت نفسه بشكل عشوائي مما يفقد قدرة الشبكة الواحدة على أن تكون أقوى، وبالتالي يقل تشكيلها لطبقة المايلين [٦].

٢) الموت البطيء – أو ما يعرف بالاجتماعات

لا اعرف كيف أشرح لك، عزيزي القارئ، كم أبغض الاجتماعات لأن معظمها مضيعة وقت، خصوصًا في عالم ما بعد كورونا الذي يسهل في الانضمام لأي اجتماع من أي مكان وفي أي وقت بضغة زر، فتجد أن يومك تقريبًا كله يضيع في الاجتماعات وتضطر أن تضع ساعات عمل إضافية لتنجز العمل الحقيقي.

قام باحثون في جامعة هارفرد باستبيان على حوالي ٢٠٠ مدير تنفيذي في مختلف القطاعات، حيث سألوهم عن آرائهم حول الاجتماعات وأثرها. ٦٥٪ قالوا أن الاجتماعات تمنعهم من اكمال عملهم، ٧١٪ قالوا أن الاجتماعات غير منتجة وعديمة الكفاءة، ٦٤٪ قالوا أن الاجتماعات تحد من القدرة على التفكير العميق [٧]. وهؤلاء ليسوا وحدهم، الكثيرين من الموظفين حول العالم يبغضون فقرة الاجتماعات المتكررة في يومهم. فلماذا إذن نكاد نتفق على عدم جدوى الاجتماعات ومع ذلك نستمر في تطبيقها بجنون؟

حلول مثل التحضير لأجندة واضحة وجدولة وقت قصير لن تفيد، لأن المشكلة جذرية ويجب حلها على مستوى ثقافة وعقلية ومنظومة الشركة في التعامل مع مسألة الاجتماعات. هذه المقالة تشير إلى ٥ خطوات يمكن للشركات اتباعها لتحسين ثقافة الاجتماعات وزيادة فاعليتها.

هناك الكثير من الاجتماعات التي لن يكون لها حاجة فقط إن قضى الموظفون ١٥ دقيقة في قراءة في مستند/ايميلات ما، أو أنهم يشاركون مستجدات عملهم من خلال منصة إدارة مشاريع وعمل جماعي منظمة بدلاً من عقد اجتماعات الـ status updates التي يقول عنها جايسون فريد، مؤسس Basecamp، «من الصعب إيجاد إهدار أكبر للمال، أو الوقت، أو التركيز، من اجتماعات متابعة المستجدات». أيضًا الكثير من الاجتماعات لا تتطلب أن يحضرها الجميع أو أكثر من شخص / شخصين من فريق ما، فبدلاً من حضور ١٥ – ٢٠ موظف لاجتماع مدته ساعتين، يُكتفى بـ ٥ موظفين أساسيين مثلاً، أما البقية نتركهم يكملون عملهم بتركيز، ويمكنهم لاحقًا أن يقرؤوا محضر الاجتماع والذي لن يأخذ من وقتهم ٥ دقائق.

استثناء: الاجتماعات لأصحاب المناصب التنفيذية

حسنًا، إذا كنت رئيس شركة، أو عضو مجلس إدارة، أو ما شابه، فالمتوقع أن تكون طبيعة عملك قائمة على الاجتماعات بشكل أساسي، وهذا مفهوم وضروري بل ومطلوب، لأن القيمة المضافة التي يجلبها القادة التنفيذين هي القدرة على صنع قرارات سريعة حدسية (instinct decisions) الناتجة عن خبرتهم المهنية المتراكمة. لذلك هذه الفئة ليست مطالبة بأن تعزل نفسها لمدة ٣ ساعات للتفكير بعمق في مشكلة معينة وحلها، سيكون ذلك مضيعة لوقتهم ولقيمتهم، لكن مساعديهم / الموظفون الآخرون يحتاجون هذا العمل العميق لحل المشكلات ومن ثم جلبها – على هيئة اجتماعات أو ايميلات – للقادة التنفيذين حتى يتخذوا القرارات [٨].

٣) الرسائل الفورية وبيئة التواصل المستمر

شخصيًا أجد أن إدارة عمل الفرق والمهام عبر الواتس آب من أتعس الممارسات في بيئة العمل الحديثة. وهذا ليس بناءً على تجربتي الشخصية فقط، بل أيضًا وفق الدراسات التي بحثت في أثر الرسائل الفورية (Instant Messages) على أداء الشخص في إنجاز مهمة ما. فمثلاً قامت إحدى الدراسات بتجربة مختبرية حاكت فيها بيئة عمل وطلبت من المشاركين أن يؤدوا مهمة كتابة إيميل خلال وقت محدد (وهي مهمة سطحية)، وقسمتهم إلى مجموعات: المجموعة الأولى لم يتم مقاطعتها، والمجموعتين الأخرى تم مقاطعتهما بمكالمات هاتفية ورسائل فورية، و قد أظهرت النتائج أن الأداء والجودة في كتابة الإيميل لم تختلف كثيرًا بين المجموعات، لكن المجموعتين التي تعرضت لمقاطعات كانت نسبة التوتر، والاحباط، والجهد الذهني، والشعور بالضغط فيهما أكبر [٩].

الأمر لا يقتصر على تواصل الواتس آب، فالمشكلة نفسها موجودة على منصات العمل الجماعي مثل (Slack)، عندما لا تستخدم بشكل صحيح، أي عندما لا تفعل أدوات جدولة وتنظيم العمل ويتم استخدامها فقط كمنصة للتواصل الفوري.

يعزي «كال نيوبورت» انتشار سلوك التواصل الفوري إلى ضعف التخطيط والتنظيم والتركيز على تحقيق هدف قصير المدى وهو السرعة في الحصول على المعلومة، وأنا أقول أنه في كثير من الأحيان كسل وتهرب من العمل (أنا مدانة بهذا للأمانة)، فمثلاً يستمر مديرك أو زميلك بمقاطعتك عبر الرسائل الفورية لسؤالك عن أمور يستطيعون الاجابة عليها بأنفسهم إن قرؤوا المستند هذا، أو محضر الاجتماع ذاك، أو بدلاً من أن يقاطعوا عملك المهم لترسل لهم ملفًا ما، كان بإمكانهم البحث في عن الملف في Google Drive أو أيا كان المكان الذي يحتفظ فيه بالملفات، وهذا لن يكلفهم حتى ٤ دقائق، لكنه سيكلفك فقدانك لتركيزك على ما هو مهم، لكننا جميعًا نحب الطريق المختصر، حتى وإن ضر ذلك بالعمل على المدى البعيد.

٤) ثقافة “الآن الآن”

في الحقيقة أشعر أني أدفع إلى الجنون عندما يُتوقع مني أن أقرأ  الإيميلات وأرد عليها وعلى الاتصالات على الفور، الأمر ذاته عندما نتوقع أن يوفر لنا زميل العميل ما نريده الآن الآن، كل ما علينا فعله أن نرفع عليه السماعة، ومن ثم هو مطالب بترك ما بيده والاستجابة لما نريد، حتى جدولة مواعيد التسليم تصبح مربكة ومحبطة جدًا، لا توجد مواعيد واضحة لأن كل شيء يجب تسليمه “ASAP” – في أسرع وقت ممكن!

لا أفهم حقيقةً لماذا نركض كل هذا الركض، العميل لن يختفي، الشركة لن تنهار، والأهم من كل ذلك أن المشكلات والقضايا أعقد من أنها تحل في يوم وليلة، فلماذا كل هذا الركض!

في بحث قامت به «ليزلي بيرلو» أستاذة في كلية هارفرد للأعمال وجدت أن الموظفين المشاركين بالبحث يقضون ما يقارب ٢٠ – ٢٥ ساعة أسبوعيًا خارج أوقات الدوام للرد على الإيميلات لأنهم يعتقدون أنه من الضروري الرد عليها خلال ساعة من وقت وصولها. لكن «ليزلي» قررت أن تختبر هذا الاعتقاد السائد فأقنعت مدراء بشركة مجموعة بوسطن الاستشارية (BCG) بالمشاركة في دراسة. وبيئة عمل (BCG) مشهورة بالضغط العالي وثقافة التواصل المستمر (مثلاً طبيعي أن يتصل عليك مديرك الساعة ١٢ في الليل)، أرادت «ليزلي» أن تعرف «هل فعلاً التواصل المستمر يساعدك في عملك؟» لذلك طلبت من كل فريق أن يقضي يومًا واحد فقط من أيام الدوام من دون أي تواصل داخلي مع الزملاء، أو خارجي مع العملاء/الجهات الأخرى [١٠].

في البداية قاوم الموظفون الطلب لأنهم جميهم كانوا قلقين أن ذلك سيخسرهم عملائهم وسيؤثر سلبًا على سيرتهم المهنية! لكن بعد اتمام التجربة أظهرت النتائج أن الموظفين وجدوا متعة أكبر في العمل، ووقت للتعلم، وتطوير المهارات، والأهم من ذلك رفع جودة المخرجات المقدمة للعميل [١١].

وثقافة “رد الآن الآن” هذه تتجاوز سياق العمل إلى سياق العلاقات الاجتماعية، لا أفهم مثلاً عندما تخرج برفقة صديق أو تحضر فعالية معينة، لماذا تشعر أنه عليك أن تجيب على كل المكالمات التي تأتيك، لماذا لا يكون جوالك على الصامت أصلاً؟ اتفهم وجود حالات استثنائية /طارئة، لكن معظمنا لن تنهار حياته، أو عمله، أو أسرته إذا لم يرد على الهاتف في الساعتين التي يقضيها برفقة أصدقاء/أحباب أو يخوض تجربة جميلة تستحق أن يعيشها بكل حواسه.

٥) ثقافة الانشغال (Busyness) كمؤشر للانتاجية

في سياق العمل، أعتقد أن أكبر “مقلب” يمكن أن يواجهنا هو اعتقادنا أننا إذا كنا مشغولين فهذا يعني أننا منتجين، فالأمرين مختلفين، كونك تعمل ٨ أو حتى ١٥ ساعة في اليوم هذا لا يعني بالضرورة أنك منتج، فمعظم هذه الساعات على الأرجح ذهبت في اجتماعات، ومكالمات، وإيميلات، ومقاطعات من قبل الزملاء والعملاء، واستراحات تدخين، واستراحات غداء، واستراحات تفقد منصات التواصل الاجتماعي…إلخ، وإذا ما نظرت إلى العمل الحقيقي الذي قمت به، على الأرجح أنه لن يتجاوز الثلاث أو أربع ساعات فقط كما تشير بعض الدراسات، لذلك أكثر الناس انتاجية – برأئي – هم الناس الذين يصممون يومهم، وبيئة عملهم، ونمط حياتهم بشكل يخلق ساعات عمل مركزة أقل ذات عائد كبير. «تيم فيريس» تناول عن هذا الموضوع بإسهاب في كتابه (The 4-Hour Workweek).

ويعزي الكاتب والباحث «كال نيوبورت» تشكل ثقافة الإنشغال إلى أنها الطريقة الأسهل التي يملكها موظفو اقتصاد المعرفة للتعبير عن إنتاجيتهم أو القيمة التي يضيفونها. ففي حقبة الثورة الصناعية كان يسهل جدًا قياس إنتاجية الموظفين بوحدات رقمية واضحة، مثلاً كم قطعة ركب؟ كم مكينة أصلح؟..إلخ، أما في بيئة العمل الحديثة والقائمة على المعرفة والمعلومات التي يصعب قياسها كميًا، فنتبنى معتقد “أنا أفعل الكثير، إذن أنا منتج” وهذه الفكرة تتعارض مع فكرة العمل العميق التي تقتضي أن نركز على مهام أقل لا أكثر.

ما هي الحلول إذن؟

حسنًا نصف الحل هو أن نستوعب المشكلة الملخصة كالتالي:

  • في عالم اقتصاد المعرفة، العمل العميق هو السبيل الوحيد الذي سيمكن موظفي المعرفة من خلق عمل عالي الجودة وكسب ميزة تنافسية ذات قيمة عالية.
  • حتى نستطيع تحقيق العمل العميق علينا أن نقتل المشتتات من حولنا. (كلمة قتل هنا من باب المبالغة، لكن المعنى تقليلها قدر الإمكان)
  • قتل المشتتات ليس مسؤولية الموظف وحده بل بيئة العمل أيضًا والتي يجب أن يعاد تصميمها لتضمن مساحة للعمل العميق في جدول موظفيها.
  • تعدد المهام ليست شطارة، بالعكس عادة قد تؤثر سلبًا على جودة عملك.
  • يمكن استبدال الكثير من الاجتماعات بالتخطيط، وتنظيم العمل، وإدارة مشاركة وحفظ المعلومات بشكل جيد.
  • صحيح أن الرسائل/التواصل الفوري تحقق السرعة، لكن الثمن الذي تدفعه الشركة/الموظفون جراء هذا السلوك هو زيادة الضغط، والتوتر، والارهاق الذهني، والذي سيؤثر على جودة العمل عاجلا أم آجلاً.
  • لن تنهار الدنيا إن لم ترد على الإيميل/المكالمة الآن الآن! صدقني.
  • وأخيرًا، الانشغال ليس وسام شرف ترتديه.

أما النصف الثاني من الحل فيكمن في أن يقوم أرباب العمل ومن لهم الصلاحية بمراجعة ممارسات بيئة العمل وتطويرها حتى لا نستمر في صنع نسخ مكررة من صديقنا الأخطبوط ذي الكفاءة المنخفضة.

–انتهى–

لمعرفة استراتيجات يمكن تطبيقها على الصعيد الشخصي لتقليل التشتيت أثناء العمل، اقرأ مقالة حمية الانتباه

اقرأ أيضًا: الانشغال ليس وسام شرف ترتديه: عن الاحتراق الوظيفي والتعامل معه

المصادر:

[١] Email Is Not Free, Tom Cochran, Harvard Business Review, 2013

[٢]، [٣]، [٤]، [٥]، [٦]، [٨]، [١٠]، [١١] Deep Work: Rules for Focused Success in a Distracted World, Cal Newport, 2016

[٧] Stop the Meeting Madness, Leslie A. Perlow, Harvard Business Review, 2017

[٩] The cost of interrupted work: More speed and stress, Gloria Mark, Daniela Gudith, Ulrich Klocke, 2008

انضم إلى قائمة القرّاء الرهيبين حتى تصلك مقالات مثيرة من هذه الغرفة الصغيرة!

10 ردود على “ كيف تصنع بيئة العمل الحديثة موظفًا أخطبوطًا منخفض الكفاءة؟”

  1. في الحقيقة استمتعت واستفدت من هذه المقالة الإدارية العلمية الثرّة، فنشكرك على كل المجهود الذي أخذتيه في هذا البحث، وسوف آخذ بهذه النصائح بعين الاعتبار في العمل بإذن الله.
    أود أن أعقّب على نقطة البريد، فحسب تجربتي هو بديل للاجتماعات المطولة، مثلاً إذا طلب العميل تعديل في مشروع أو فكرة جديدة نطلب منه إرسال بريد بما يُريده ثم أرسله لزملائنا للإطلاع عليه، وأحياناً لا نحتاج لهذا الاجتماع مع الزبون، حتى إذا اجتمعنا مع الزبون أو لوحدنا داخل الشركة يكون المطلوب واضح ويكون الاجتماع مختصر. لكن على شرط أن يكون البريد مختصر وواضح بحيث لا يأخذ وقت في القراءة ولا الكتابة بذلك لا يُشتت الشخص من المهمة الأصلية التي يعمل عليها حسب تخصصه. هذه المشتتات لا نستطيع الاستغناء عنها مائة بالمائة، بل ننصح بتقليلها، فنتخيل أن شخص لا يتواصل سواء باجتماع أو بريد عن ما يفعله وما أنجزه، بهذا سوف لن يعرف باقي الناس بإنجازه. بعبارة أخرى اﻷفضل لأي موظف أن يختم إنجازه لمهمة معينة بطريقة اتصال سواءً بريد أو عرض لما قام به حتى يكون هُناك توازن بين إنجازه وبين إظهار هذا الإنجاز للناس ولا يكون منغلق في عمله فقط. بعبارة رياضية استطيع أن أقول – حسب التجربة- قضاء 1% من الوقت في الاتصال، أفضل من قضاء 10% من الوقت فيه، لكن اﻷسواء أن يكون الاتصال 0%

    1.  شكرا لك معتز، أتفق معك تمامًا، الاجتماعات والإيميلات هي أدوات داعمة، لكن عندما لا نستخدمها بالشكل الصحيح تصبح مشتتة

  2. أجمل مقال يصف حال الفترة بشكل دقيق وصادق و يلامس الواقع

    استمتعت بكل فقرة وكأني أقرأ نبذة عن حياتي🥺

    كل الشكر👌🏻

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *